فتور 2

الفتور في حياة طالب العلم (2)

قال صاحبي : لقد أحكمت بيان داء ” الفتور ” في الخطرة السابقة ، وبسطتَ أسبابه ومداخله ، وما زلت أنتظر منك الدواء ، فقد أيستُ من علاجه حتى خلتُ أن لا دواء له !!

فقلت له : اعلم – رعاك الله – أنّ الله سبحانه ما أنزل من داء إلا أنزل له دواء ، علمه من علمه وجهله من جهله ، لكن عليك ابتداء أن تشخّص سبب العدوى وتعرف في أي مرحلة أنت من مراحل هذا الداء حتى تختار العلاج الذي يناسبك ويوافق داءك ثم تعزم على تعاطيه بجدّ واهتمام حتى يكتب لك الشفاء التام وإلا ستبقى تكابد أعراضه من دون جدوى ولا فائدة ترجى ، فلا تستبطئ ذكر العلاج إذ لم تحدد سبب الداء بعد ..

لكنني سأمنحك مفاتيح العلاج لعلك تصل إلى بغيتك وتقف على ما يصلحك، ولربما عجزت عن تحديد سبب الداء فباشر الدواء بأنواعه ، فرب دواء صادف محلّه فأصاب …

أولاً : داوم على الاستغفار .
إن أهمّ دواء للفتور ينبغي مباشرته والمدوامة على تعاطيه ” التوبة والاستغفار ” ، فإن المعاصي والذنوب من أكثر الأسباب المفضية إلى الفتور والعجز ، فهي تخيّم بظلامها على العقل والفكر فتحرمه التوفيق وتشتت جمعيّته وتطفئ نوره، فيصبح طالب علم ثقيلاً كسولاً نؤوماً عقيم الإنتاج والإنجاز ، فإذا عاد إلى ربه وأقبل إليه من جديد وأكثر من الإنابة إليه وجد نشاطاً إلى الطلب وخفة في النفس وقوة في العزيمة قال تعالى ” استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم”، ولن تجد دواء للفتور أنجع من دواء الاستغفار لمن واظب عليه ، فيا لله كم فيه من تجلية للقلب وصقل للعقل وتطهير للفكر وجمع للذهن بعد تشتّته ، وإياك أن تستخف بهذا الدواء أو تحسب نفسك نقيّاً من الذنوب والخطايا فلا تحتاج إليه بل كلنا ذاك الرجل الخطّاء الذي زلّت قدمه وعصى ربه ويحتاج إلى صفحه وجبر كسره حتى يسير المركب وتكتمل الرحلة .

ثانيا : ” احذر لصوص الأوقات” .
احذر من البطّالين والفارغين الذين لا يحلمون همّاً ولا يعرفون طعم الإنجاز ، فهم أضرّ الناس على دينك ودنياك ، يحثونك على الخمول ويشاركونك فيه وإذا رأوك نشطت إلى الطلب والاجتهاد سخروا منك ودعوك إلى السبات من جديد ، واصبر نفسك مع طلبة العلم الجادين أصحاب الهمم والعزائم وإن رثّ حالهم وقلّ مالهم ففي مجالسهم ترتفع الهمم وتسمو النفس إذا رأيتهم تاقت نفسك إلى سعيهم وشمّرت ساعد الجد لتخوض معهم في رحلة العلم وتركب في قافلة المجد ، فما العزّ في الدنيا إلا عزّهم ، وما المجد إلا مجدهم .

ثالثا : ” بورك لأمتي في بكورها ” .
احرص على ساعات البكور وإياك أن تُرى فيها نائماً بلا سبب من مرض أو نحوه ، فكم أضاعت هذه النومة من أوقات وأفنت من أعمار وأورثت كسلاً ، فإن ساعات الصباح الباكر من بعد صلاة الفجر هي ساعات الصفاء والهدوء ونقاء الذهن واجتماع العقل ، يقل فيها ضجيج الناس وضوضاؤهم وتجد سعة للجلوس مع كتابك ودفترك وقلبك وخاطرك ، تقلّب صفحات العقل وتنقّح مسائل العلم وتلاقح فكرك بفكر الأولين وتصنع عقلك على موائدهم ، فهذه الساعات هي عصارة نهارك وزبدة عمرك فمن فاتته ذهب يومه وضاع نهاره وتحسّر على فوات وقته ، فإن لك في سائر نهارك سبحاً طويلاً مع الخلق ما بين وظيفة وجامعة وواجب أسرة، فبالكاد تظفر بساعة أو ساعتين للطلب وتحصيل العلم إلا من وفّقه الله وسدده في حسن إدارة الوقت ، ولكن مع ذلك يبقى لساعات الصباح سحرٌ في النفس وأثرٌ في الإنجاز لا يقارن بغيرها، ويكفي دعوة الصادق المصدوق لهذه الأمة بالبركة في هذه الساعات لتكون محطّ اهتمامك ومحبّبة إلى قلبك .

رابعاً : تعلم كيف تطلب العلم .
إن غياب الرؤيا الواضحة عند أكثر طلبة العلم خصوصاً في هذا الزمان من أهمّ أسباب الفتور كما أسلفنا في الخطرة السابقة ، لذا ينبغي على طالب العلم الجاد أن يتعلم كيف يطلب العلم وكيف يرتقي في مدارجه ، فطلب العلم ليس خبط عشواء كما هو الحال في الجامعات والدراسات الأكاديمية بل منهج علمي سار عليه المتقدمون من أهل العلم فكان الطالب يبدأ بصغار العلم قبل كباره ولا يستعجل قطف الثمار والتصدّر في الآفاق بل يجلس العشر والعشرين والثلاثين طلّابة للعلم على أيدي الأكابر والمتقنين ، فإن قلت : فما هو السبيل إلى درك المنهج العلمي للطلب ؟ وكيف أعرف سلّم الترقي في كل علم ؟
أجيبك فأقول : عليك بسؤال من سبقك من العلماء الراسخين وطلبة العلم المتقدمين عن منهج الطلب وطرق التحصيل ، ولا تبرح عن مجالستهم وسؤالهم فمن وصل إلى علم فقد عرف الطريق إليه فهو أحق من يرشدك إليه ، واحذر من استنصاح من لم يعلُ كعبه في العلم حتى ولو كان محاضراً جامعياً بلغ المراتب العليا في درجات الأستاذية ما دامت بضاعته مزجاة في العلم وحفظه ضعيف وممارسته محدودة ،فإن العلم لا يقاس بسنوات الجامعة ولا بالدرجات الأكاديمية بل يقاس بالعطاء العلمي والإنجاز الفكري والتصنيف الدقيق والتحرير لكلام العلماء والقدرة على فهم التراث وسبكه وإعادة صياغته للأجيال اللاحقة ، العلم يقاس بسعة الطلاع مع جودة الفهم والاستمرار في التحصيل وحضور مجالس العلم وإقامتها والاهتمام بها أكثر من الاهتمام بالألقاب والأسماء والمناصب والمسمّيات الوظيفية .

فإذا رزقك الله صحبة عالم أو متقدّم في ميدان العلم فالزم غرزه وعضّ عليه بالنواجذ فقد وقفت على كنز ثمين لا يزهد فيه إلا محروم مخذول ، نسأل الله السلامة من الخذلان .

واحذر – عبد الله – أن تَكبُر في نفسك وتظن أنك تستطيع شقّ الطريق وحدك متّكلاً على عقلك وذوقك ، فإن غيرك ممن فعل هذا عاد بخُفّي حُنين وأضاع عمره وعاد صفر اليدين ، والكيّس من اتعظ بغيره..

خامساً: اجعل ” الكتاب ” في متناول يدك .
كثير من طلبة العلم يصيبهم الفتور لكثرة مطالعتهم لوسائل التواصل وانشغالهم بها وسفاسفها ، فهو منشغل بوضع صور لنفسه أو في التعازي والتبريكات أو في المهاترات التي يخوضها بعض من تصدّر للعلم وليس من أهله ونقاشات كاسدة لا تسمن ولا تغني من جوع وقلّ أن تخلو من هوى النفس وحب الجمهور ، فعلاجه أن يقاله له :- أبعد هاتف عن يديك وضع كتاباً بالقرب منك ، وكلّما سولت لك نفسك أن تمد يدك إلى هاتفك تناول الكتاب وأرغم نفسك على النظر فيه مستصحباً في ذهنك أن كل دقيقة من المطالعة والنظر في الكتب تزيدك معرفة وفهماً وتخطو بها خطوات إلى الأمام ، وفي كل نظرة إلى وسائل التواصل والانشغال بها من غير هدف مقصود تنجزه تعود خطوة إلى الخلف وتضيّع ساعة عمل.
في بداية الأمر ستجد الأمر صعباً تكرهه النفس خصوصاً لمن اعتادت يده تصفّح الجوّال والعبث به، لكن بعد مدة ستجد أنك بدأت تعتاد قراءة الكتب بدل النظر في الهاتف وأنك تنجز عدداً كبيراً من المصنّفات ما كنت تظن أنك تقرؤها في يوم من الأيام .

سادساً : ألق نفسك في بحر العلم .
كلما شعرت بالفتور والكسل اربط نفسك ببرنامج علمي أو اعقد مجلساً مع زملائك في مطالعة كتاب أو سماع درس ، فإن الإنسان يشعر بالاندفاع حينما يشعر بالأُنس في طريقه وأن هناك من يشاركه في حمل الهمّ وصناعة الهدف ، لذلك لا بد أن ترتبط دوماً بمجالس أهل العلم وسماع دروسهم والمواظبة على برامجهم بشرط أن تكون ضمن المنهج العلمي الذي وُضع لك في الطلب حتى لا تشتت نفسك من جديد .

سابعاً : لا تنتظر الفرصة بل اصنعها .
بعض طلبة العلم يصيبه الفتور والكسل وهو ينتظر أن تتهيّأ له ظروف الطلب ، وهذا من أكبر الأخطاء في حياته ، بل عليك أن تبادر أنت في صناعة الفرصة وتهيئة الظروف المناسبة للطلب ، فإن عوائق الحياة لن تنتهي وإن كنت تظن أنك ستصل إلى مرحلة من التفرغ التام بعيداً عن ضوضاء الحياة فأنت لم تعرف الحياة ، فالعاقل يوطّن نفسه على طلب العلم في مختلف الأحوال فإذا لم يجد عالماً في بلده يثني الركب بين يديه فليسمع المحاضرات من خلال الشبكات ووسائل الاتصال الحديثة ، وإذا كان موظفاً أو طالباً جامعياً فليستغل أوقات الذهاب والعودة وساعات الراحة في سماع الدروس وتحصيل ما يمكن تحصيله ، فالعلم رزق كما أنّ المال رزق ، وعلى الإنسان أن يسعى في تحصيل رزقه من العلم كسعيه في تحصيل رزقه من المال بل أشد ، وكلّ ما تحصّله من العلم النافع فهو خير لك ، فلا تشترط في طلبك للعلم إمّا أن أحصّله كله وأتفرغ له كله أو أُتركه كله ولا أحصل شيئاً، فهذا جهل وسوء تدبير بل عليك البذل والاجتهاد والأمة ستحتاجك يوماً ما، فمهمة صناعة الوعي مهمة ينبغي أن نشترك جميعاً في إحيائها كل بقدر سعته وطاقته .

هذه يا صاحبي سبعة أدوية أضعها بين يديك ، فإن عرفت من أين أُتيت في همّتك وما هو سبب فتورك فاختر الدواء الذي يناسبك منها ، وإن جهلت سبب دائك فتجرّعها كلّها وستجد فيها شفاء بإذن الله ، واعلم أنّ الذي يقدّر الشفاء أولاً وأخيراً هو الله سبحانه فالزم عتبات العبودية بين يديه وداوم قرع الباب فلا يخيب من دعاه ولا من سعى في رضاه ، والله الهادي إلى سواء السبيل .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

من رسائل الطلبة المشاركين في البرنامج
أكاديمية غراس العلم لدراسة العلوم الشرعية
صورة الشيخ إبراهيم رفيق
بإشراف الشيخ / إبراهيم رفيق الطويل
لوجو موقع غراس العلم
Scroll to Top