مع بداية كل طريق أشقّه لنفسي في درب العلم أجد الهمّة متّقدَة والعزيمة مشتعلة ثم سرعان ما تخبو هذه الجذوة لأعود إلى بداية الطريق من جديد ، كم شرعت في دراسة مصنّف مع معلّم ثم كسلت !!، وكم من نظم سرت فيه ثم انشغلت عنه فتثاقلت النفس من العودة إليه مرة أخرى!! ، وهكذا ديدني مع طلب العلم … وها هو العمر يمضي بي سريعاً من دون أن أحكِم علماً أو أجمع شيئاً ، حالي كحال رجل يغرف بيده من بحر ثم تتساقط القطرات من بين أصابعه …
هكذا مضى يبثّ لي حزنه وكَمده باحثاً عن إجابة تنقذه من هذا الاضطراب ، وتنهي له هذا التخبّط قبل أن يفوت الآوان وينفضّ السوق ويعود كلّ تاجر إلى رحله بغلّته …
فقلت له :
اعلم – رعاك الله – أنّ داء ” الفتور” داء مهلك فتّاك ، فيا لله كم تحطّمت على صخرته العنيدة من آمال ، وكم وأدت مخالبه من همم ، كلما سارت الركبان تشدو الوصول إلى الديار نصب شباكه وحباله في طريقها ليحول بينها وبين مسيرها أو ربما كَمَن لها لينقضّ عليها حين يجهدها التعب …
ثم اعلم أنّ هذا الدّاء ليس وليد اللحظة ، فما من ساع يسعى في طرق سبل العلم أو العمل إلّا وجد هذا الداء على طريقه ينتظره ليصيب منه ، فلا تتوهّم أنّ أصحاب العزائم من الأئمة العظام والعلماء المبرّزين والدعاة المصلحين كانوا في عصمة منه وسلامة من غدره ، فقد عرفوه كما عرفناه بل ربّما ذاقوا شيئاً منه وطالهم نصيب من شرره، لكنهم استطاعوا في نهاية الأمر أن يردّوا كيده في نحره ويئدوا مكره في مهده حين استبصروا بنور الله ، عرفوا مسالكه التي يطرقها فحادوا عنها ، وأبصروا كمائنه أين نصبها فلم يقعوا بها ، فكتبت لهم السلامة ، ووصلوا لمقصدهم ونالوا مرادهم ،ليتركوا بصمة في تاريخ أمّتهم قبل أن يغادروا ، وليعطوا درساً لمن بعدهم أنّ الثبات على الطريق إلى نهايته إنما هو ثمرة التبصر والتيقظ والجد بعد توفيق الربّ سبحانه ،،،
فيا ترى ما هي المسالك التي يطرقها داء ” الفتور” حتى يصل إلى همم الطالبين وعزائم العاملين؟ ، وكيف لنا أن نجتنبها ونحيد عنها لنظفر بشيء ممّا ظفر به السابقون؟ ، وحين نقع في شيء من كمائنه كيف لنا أن نخلّص أنفسنا قبل أن تجهز علينا ؟!
سنتكلم في هذه الخاطرة عن المسالك التي يتسرب من خلالها الفتور إلى همة طالب العلم ، ولعلنا نتكلم عن سبل الوقاية والعلاج في خاطرة أخرى بإذن الله دفعاً للإطالة ..
???? مسالك الفتور …
أولاً : إنّ أهمّ سبب يوقع طالب العلم في الفتور هو ” الإصرار على المعاصي والذنوب” ، فالقلوب – رعاك الله- بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلّبها كيف يشاء ، فأنت لا تملك قلبك ولا هو تحت طوعك بل هو في يد مولاك وخالقك ، فهو الذي يمدّه بمادّة التوفيق والثبات ، وهو الذي يمنحه الهمم والعزائم ويهبك عشقها والتعلّق بها والسعي لاكتسابها ، ومن كان قلبه في يد خالقه فعليه أن يبقى على وجل وخشية وإخبات دائم لمولاه حتى لا يسلب تلك النعم ويفقد ذاك النعيم ، وإذا حدّثته نفسه بالمعصية أدّبها ونهرها وأوعدها ، وإذا وقع في الزلل – ولا بد – سارع للاعتراف بالتقصير والتضرّع لمولاه بالعفو والصفح عن الزلّات .
على هذا عاش السلف – رحمهم الله – وربوا أنفسهم وطلبتهم فتجد مالكا ينصح الشافعي قائلا : ” إني أرى الله ألقى على قلبك نوراً فلا تطفئه بظلمة المعصية ” .
أما إذا انغمس قلبك في المعاصي ولم تراقب الخطرات ولم تتبع العثرات بالتوبة والإنابة فلا تسل لماذا تصاب بالفتور والكسل ، ولا تستغرب ذاك العجز الذي تحياه ، ولا تقل : لماذا يحال بيني وبين الفهم والتعلم والحفظ والمذاكرة ، فلكلّ باب مفتاحه وأنت أضعت المفتاح ! !
ثانيا: من أسباب الفتور ومسالكه استطالة الطريق والرغبة في جني الثمار مبكراً ، فبعض طلبة العلم يحسب العلم بسنوات الجامعة وعدد المجالس التي يحضرها ، ولم يدرك بعد أنّ العلم بهجر الوساد وطول السهاد والانكباب على المصنفات ومجالسة الثقات من المربين الفضلاء ينهل من معين علومهم ، ويلقّح أفكاره بأفكارهم لتنموا مع مرور الأيام الأفهام ويزداد عشقاً على عشق وشوقاً على شوق ، وكلما سار في طريقه عرف مقدار جهله فيسابق الأيام واللحظات والأنفاس فإذا به تتوسع مداركه ويغزر علمه ويدق فهمه وتتنوع مشاربه ، وهو مع هذا كله يعترف بقصوره وجهله وحاجته للتزود حتى يقطن تحت الثرى ويلفظ أنفاسه وهو يسارع الخطى ، ورحم الله ابن عقيل الحنبلي حين يصف همته في طلب العلم وتحصيله وقد ناهز الثمانين قائلا :” وأنا في عشر الثمانين أجد الحرص على العلم أشد مما كنت أجده ابن العشرين ” .
أما طالب العلم في وقتنا إذا عرف أنّ العلم له خطّته وبرنامجه، وأنّ حضور بعض المجالس وحفظ المختصرات وقراءة بعض المصنّفات لا يعدو به أن يكون مبتدئاً في طلب العلم استطال الطريق واستبعد قطف الثمار فأصابه الفتور والكلل والملل ودعته نفسه إلى العودة من الطريق بعد أن شرع فيها .
ثالثا : من أسباب الفتور أيضاً عدم درك مناهج الطلب وسبل التلقي ، فتجد طالب العلم مبعثراً في تحصيله تائهاً في طريقه ، يروم طلب ما لا يمكن تحصيله إلا بتحصيل غيره لفقد المرشد المحنّك أو كثرة تنقله بينهم ، فتارة يطلب منهجية فلان ثم ينتقل فيطلب منهجية فلان ، ويبقى هكذا يتنقل من فلان إلى فلان حتى يتصدع رأسه وتفتر همته وينقطع بالكليّة .
رابعا : من أسباب الفتور أيضاً ” المثالية ” في طلب العلم التي يسعى بعضهم في تحصيلها في هذا الوقت متأثراً بما قرأه من سير الأوائل في ملازمة العلماء الكبار وثني الركب بين يديهم ، فينتظر هذا الطالب أن تجري الأقدار كما يصبو فيحظى برفقة عالم نحرير مع أنّ جميع الظروف المحيطة به تشير إلى بعد هذا المطلب ووعورة تحصيله ضمن ظروفه الراهنة ، وحينها يبدأ الفتور بالتسرب إلى همّته وهو جالس بعجزه وكسله ينتظر ما يصعب حصوله إلى أن ينتهي هذا الطموح ويعود الطالب خائباً إلى دنياه .
خامساً : ومن مسالك الفتور أيضاً ” المحن ” التي تهز طالب العلم في حياته ، فما من طالب علم إلا سيبتلى ويمتحن ليميز الله الذهب الخالص من الزيف المغشوش ، فبعض الطلبة يطلب العلم بشرط السلامة فإن ابتلي في دنياه باع كتبه وهجر مجلسه وزهد في كل ما حفظه وتنكّر للعلم بعد أن ألفه ، وأصبح من أشدّ أعدائه وألدّ خصومه ، لأنّه ما عرف الطريق من بدايته ،،،،
سادسا : مطالبة النفس بالكمال في كل ضروب العلم ، والوصول للمنتهى في كل العلوم قد يكون سبباً في فتور بعض الطلبة ، خاصة حينما يجد الأعمار أضيق من استيعابها مع قلة المتأهّل لتدريسها ، وكثرة التزامات الطالب التي تحول بينه وبين الشروع في أكثرها ، فيتسرّب إليه اليأس والعجز ، لعدم وضوح الهدف عنده من بداية المشوار والرضى بما يقسمه الربّ سبحانه مهما كان …
هذه أهم مسالك الفتور – كما أحسبها – فليتفطن لها طالب العلم وليكثر النظر فيها لعله يعلم من أين دخله الفتور …
في الهمسة القادمة – بإذن الله- نسلط الضوء على أبرز طرق العلاج والوقاية من هذه الأسباب وكيف يتمكن طالب العلم من تجاوزها .
والله الهادي إلى درب الصواب ..